Home / سياسة / محليات / بين الفاتيكان ولبنان… علاقة ذات بعد تاريخي أبعد من الدبلوماسية

بين الفاتيكان ولبنان… علاقة ذات بعد تاريخي أبعد من الدبلوماسية

لضمان قراءة علمية وتاريخية للعلاقة بين الفاتيكان ولبنان علينا أن نميّز بين العلاقة الكنسية، أي الكنيسة في لبنان وكنيسة الفاتيكان، والدولة اللبنانية ودولة الفاتيكان كعلاقة دبلوماسية.

العلاقات السياسية الرسمية بين الفاتيكان ولبنان بدأت عام 1918، في حين كانت من قبل علاقة روحيّة وايمانية وعلميّة، حيث أنشأ الفاتيكان من خلال الإرساليات، العديد من المدارس والكنائس والجامعات، أي مباشرة بعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى وبعد سقوط السلطنة العثمانية التي كان لبنان جزءاً من أراضيها.

في ذلك الوقت، شهد لبنان تدخلًا للدول مثل فرنسا، التي أعلنت الانتداب على لبنان، الذي انتهى باعلان دولة لبنان الكبير حين قاد البطريرك الياس الحويك الوفد الثاني عام 1919 متجهًا نحو فرنسا، مطالبًا باستقلال لبنان التام لا عن الأتراك فحسب إنما عن الدول العربية وسوريا أيضًا.

العلاقات الدبلوماسية 

نشأت العلاقات الدبلوماسيّة بين لبنان والكرسي الرسولي في تشرين الثاني من العام 1946 حيث فتح لبنان مفوضيّة له وعيّن شارل الحلو”، الذي اصبح رئيساً للجمهوريّة في ما بعد (1964-1970) أوّل وزير مفوّض. وقد قدّم أوراق اعتماده إلى البابا بيوس الثاني عشر في 17 آذار 1947، وحوّلت المفوضيّة إلى سفارة بتاريخ 2 حزيران 1953.

أمّا السفير الفاتيكاني في لبنان، فيكون دائماً أسقفأً وكاردينالاً ويسمّى بالقاصد الرسولي، حيث انّه يتقدّم على باقي السفراء حسب اتّفاقيّة فيينّا ويسمّى بعميد السلك الديبلوماسي.

طيلة الفترة التاريخية الطويلة لم يحدث أي توتر في العلاقات بين لبنان والفاتيكان، إلا مرة واحدة بعد تحفظ الكرسي الرسولي على تعيين السفير جوني إبراهيم، ففي اثناء زيارة الرئيس سعد الحريري للفاتيكان في تشرين الأوّل 2017 أبلغ البابا فرنسيس الرئيس الحريري عدم قبول ترشيح ابرهيم الذي يشغل حاليا منصب القنصل العام اللبناني في لوس انجلس في الولايات المتحدة الاميركية، لمنصب سفير لدى الفاتيكان، نظرا الى علاقته بالماسونية. لم تسارع السلطات اللبنانيّة لاستدراك الخطأ، بل سجّلت خطأً ثانياً بترشيح أنطونيو عنداري بدل السفير جوني ابراهيم، لكن السفير الجديد هو سفير مؤقّت بالمعنى العلمي وليس القانوني، لأنه يحال على التقاعد بعد 3 أشهر، الأمر الذي لم يرق للدبلوماسية الفاتيكانية.

لكن سرعان ما تم تجاوز هذه المرحلة بعد أن اختار رئيس الجمهورية العماد ميشال عون النائب السابق فريد الياس الخازن سفيرا جديدا للبنان لدى الكرسي الرسولي.

في المقابل تريّث البابا فرنسيس بتعيين قاصد رسولي حينها بعد الكاردينال غابرييل كاشا فاقتصرت العلاقات الدبلوماسيّة بين البلدين على القائم بالاعمال حتّى أذار 2018 بتعيين السفير الجديد الكاردينال جوزف سبيتيري.

اليوم وبالتزامن مع زيارة وزير خارجية الفاتيكان، بول ريتشارد غالاغير الى بيروت، قال الخوري داني درغم المتخصّص في تعليم الكنيسة الإجتماعي- السياسي وفي العلوم السياسية والعلاقات الدولية، في حديث خاص لموقع “السيرة نيوز”: “لا شكّ أنّ لبنان يحتلّ مكانة واسعة لدى الفاتيكان كبلد فريد ومميّز لما يحمله من تنوّع ثقافيّ وحضاريّ لطالما رفعه الكرسي الرسولي الى مرتبة “النموذج” المقدّم للعالم كلّه، ولأنّ “وطن الرسالة”، كما ينظر اليه الفاتيكان، يمرّ بأزمة خطيرة لا سابق لها على المستويات الإجتماعيّة والسياسيّة والمعيشيّة كانت له هذه الالتفاتة. كما تصادف هذا العام الذكرى السنوية الخامسة والسبعون على العلاقات الدبلوماسية بين الكرسي الرسولي ولبنان والذكرى الخامسة والعشرون لزيارة القديس يوحنا بولس الثاني الرسوليّة إلى البلاد في العاشر من أيار في العام ١٩٩٧ بمناسبة توقيع الإرشاد الرسولي لما بعد السينودس “رجاء جديد للبنان” ثمرة السينودس الذي عقد في روما عام ١٩٩٥. ويعود أيضًا إلى عام ٢٠١٢، لعشر سنوات خلت، الزيارة الرسولية للبابا بندكتس السادس عشر وفي تلك المناسبة أيضًا، وُقِّع في بيروت الإرشاد الرسولي لما بعد السينودس “الكنيسة في الشرق الأوسط”، عقب سينودس الأساقفة من أجل الشرق الأوسط الذي عُقد عام ٢٠١٠.”

وبسؤاله عن طبيعة العمل الدبلوماسي للفاتيكان، اوضح الخوري داني درغم ان وزير الخارجية في الكرسي الرسولي يدير علاقات الفاتيكان مع مختلف دول العالم، عن طريق السفارات والبعثات الدبلوماسية، ويبلغ عدد دول العالم التي تتبادل التمثيل الديبلوماسي والفاتيكان 183 دولة. ومن الدول المعترف فيها عالميًا يوجد 14 دولة فقط لا تتبادل التمثيل الدبلوماسي مع الفاتيكان، ثماني دول منها إسلامية وأربعة شيوعيّة ودولة بوذيّة ودولة توفالو؛ أيضًا فإن الفاتيكان يعتبر عضو مراقب في منظمة الأمم المتّحدة. 

لعب الفاتيكان دورًا هامًا في خارطة السياسة العالميّة طوال تاريخه، وفي العصور الحديثة كان للفاتيكان دور دبلوماسي فاعل خلال الحرب العالميّة الأولى و‌الحرب العالميّة الثانية كذلك فقد كان الفاتيكان حكمًا في حل عدد من النزاعات الدوليّة كالنزاع الذي قام بين ألمانيا و‌إسبانيا حول جزر كارولين؛ وكان رائدًا في مقاومة الشيوعيّة و‌الاتحاد السوفياتي ما أدى إلى تعرض البابا يوحنا بولس الثاني لمحاولة اغتيال عام 1981.

هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الفاتيكان يعتمد على سياسة “القوّة الناعمة” في علاقاته الدبلوماسيّة وتعاطيه مع سائر الدول لا سيّما في حلّ النزاعات. وما يميزّه أيضاً في علاقاته الدوليّة ما يعرف في علم الدبلوماسيّة “الدبلوماسيّة الثقافيّة” التي تقوم على استخدام القيم والحضارة كوسائل للتلاقي بين الشعوب بغية بناء السلام العالمي وتحقيقه.

وردّا على سؤال بشأن ما يحتاجه لبنان اليوم من الفاتيكان، قال الخوري داني درغم: “أتمنّى على الفاتيكان ألّا يختصر لبنان بالمفاهيم التي ألصقت به على مدى سنوات من قبله ويبني عليها وكأنّها مُعطى ثابت تاريخي وجغرافيّ، في ظلّ التحوّلات الجيوسياسيّة والديموغرافيّة في المنطقة. لذلك لا بدّ من التوقّف مليّاً والتأمّل أوّلاً بتجربة المئة عام، ووضعها على طاولة الدرس والبحث والقيام بإعادة قراءة تقييميّة لها مع التسطير تحت الشوائب، وأوّلها “لبنان الرسالة”، علينا مع الفاتيكان أن نسأل لبنان رسالة ماذا؟ وهل وصلت هذه الرسالة؟

ثانيها، “لبنان مختبر الأديان والعيش المشترك”، هل نجح الإختبار؟ أو ماذا يريد لبنان من أدوات ووسائل لكي نصل إلى اختبارٍ ناجح، كفانا نضع الإنسان مادّة اختبار، كلّفته حروبًا ودمارًا وتهجيرًا ونزيفًا بشريًا. يكفي أن ننظر اليوم الى ما نحن عليه من وضع معيشي واقتصادي وسياسي لنرى نتيجة هذه التجارب.

واضاف ان الشعارات المُخدّرة لا تبني الشعوب ولا تبني أوطان، و”نحن شعب يبني إيمانه بربّه ووطنه على الشعارات المخدّرة فيما يقيل عقله ويضعه رهينة الصدف والأقدار”.

في الختام، لم يترك الفاتيكان لبنان في أيّ من الإستحقاقات الكبرى ولم يألُ جهداً لمساعدته في المحافل الدوليّة الكبرى لما يملكه من سلطة معنويّة وتأثير فالمميّز أنّ القاصد الرسولي لا يترك مناسبة وطنيّة أو دينيّة إلاً ويكون حاضراً فيها. فعقب انفجار بيروت سارع البابا فرنسيس إلى تنظيم لقاء صلاة من أجل لبنان واطلق حملة دعم ماديّة واسعة للمتضرّرين من عائلات ومؤسّسات تربويّة واستشفائيّة ودور عبادة. وعلى إثرها قام أمين سرّ الدولة الكاردينال بيترو بارولين بزيارة لبيروت بدأها من كاتدرائيّة مار جرجس ومسجد محمد الأمين وبعدها التقى كلّ من رئيس الجمهوريّة ووزير الخارجيّة وباقي المسؤولين وقد اعتُبرت هذه الخطوة رسالة فاتيكانيّة إلى السلطة اللبنانيّة بأنّ نقمةً بدأت تتصاعد في اتّجاهها بسبب ما وصل إليه لبنان نتيجة الفساد والإهمال ودخول لبنان في صراعات إقليميّة ودوليّة لا تنسجم مع تاريخه وعلّة وجوده ورسالته. وبعد زيارته للمرفأ وتفقّد فوج الأطفاء في بيروت قال الكاردينال بارولين: “الشعب اللبناني يعاني حالة من الاحباط، ولكن سنرافقه روحيّاً ومعنويّاً وماديّاً، والبابا قد دعا الى مساعدة لبنان والعمل على التفتيش لحل دائم للبنان العظيم”. فيما بعد أعلن: “صحيح أنّ لبنان بحاجة إلى العالم، لكنّ العالم أيضاً بحاجة إلى لبنان”. آملين أن تحمل هذه الزيارة رجاء جديد للبنان الجريح.

واليوم ها هو وزير خارجية الفاتيكان يثبت مرة جديدة اهتمام الكرسي الرسولي الخاص بلبنان وحرصه على رعايته وحمايته، مع السعي الدائم لتجنبيه الخضّات الامنية والسياسية والاجتماعية لأن دولة الفاتيكان تنظر الى لبنان بالفعل على انه “اكثر من وطن… إنه رسالة حرية”.

شارك الآن

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*

x

Check Also

لا تسلكوا هذه الطرقات… مقطوعة بسبب الثلوج

أفادت غرفة التحكم المروري بأنّ الطرقات الجبلية المقطوعة بسبب تراكم الثلوج هي: ...